الاختلاف بين “الدين و”التدين” (1-2)
يمنات
حسن الدولة
تلقيت تعليقين على المقال اعلاه الأول من الدكتورة فتحية بهران رئيسة الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات الأسبق ، والثاني من الدكتور أمين الجبر أستاذ مساعد تاريخ حديث ومعاصر رئيس قسم التأريخ والعلوم السياسية كلية الآداب جامعة ذمار.
ولأهمية التعليقين – في السعي لإنضاج فكرة بناء دولة مدنية تعمل على تحييد الخطاب الديني ورجال الدين عن السياسة، والفصل بين الجانب الدعوي الديني، والجانب الدنيوي المتعلق بإدارة شؤون الدولة سعيا تجاه تحقيق المواطنة المتساوية بغض النظر عن الدين والجنس والجهة والعرق .. ؛ والشراكة الوطنية، والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات..
وعليه فسوف نخصص حلقة مستقلة لمناقشة كل منهما ، وفي هذه الحلقة سنتناول تعليق الدكتورة فتحية كونه يعزز ما تضمنه مقالنا السالف الذكر ، حيث جاء في تعليقها ما نصه:(( ان موضوع الدين والدولة ، والعلمانية. والفرادة في المقالة هي في التأصيل الفكري لانعدام الكهنوت في الدولة الإسلامية تاريخيا مفهوما وتطبيقا … والحال ان هذا الاستنتاج قد يكون موضوعا جدليا بدليل: أن مصادر التشريع للدول الإسلامية في اغلبيتها تؤكد ان دين الدولة هو الإسلام. وأن الكثير في الأحداث السياسية ومقارعة الخصوم وتبرير الاستحواذ على السلطة عبر التأريخ الإسلامي انما استند إلى المرجعية الدينية وان كان بالباطل. بل وان الكثير من الموروث الموضوع عن السنة النبوية هو في أساسه ودوافعه غطاء ايدلوجيا لتبرير افعال المنتصر الأقوى مثلا (الامويين والعباسيين). وحتى أيضا الدولة العثمانية كانت تصدر عن ادعاء بالحكم باسم الشريعة الإسلامية وإلا لا انتفى كل مبرر لحركة اتاتورك العلمانية. والأمر ينطبق على المذاهب والطوائف السياسية التي حكمت وتحكم دولا اسلامية باسم الدين الإسلامي (سنية…شيعية). وحتى حركة الإخوان المسلمين فإن تأسيسها من الناحية التاريخية انما قامت على خلفية استعادة الخلافة الاسلامية وهم يستمدون خطابهم العقائدي من مصادر محفورة في التراث الفقهي السائد. ومع ذلك فمن الثابت والمقطوع به ان تسيس الدين وتديين السياسة ليس بالدين بل بالتدين الذي حكم الدولة الإسلامية بوصفه التيار الغالب في هذا التراث وليس الدين بوصفه نصا مقدسا قابل لتعدد التفسيرات والتأويلات. ومن هنا أهمية خوض مواجهه فكرية مع تيار التدين ذاك (الاسلام السياسي) الذي يقوم على تسيس الدين ويحكم باسمه)).
وهذا الطرح علمي وفي غاية الأهمية ؛ حيث يشير الى وجود خلط في الأدبيات الإسلامية، بين العلمانية مفهوماً وفصل الدين عن الدولة بوصفه حالة سياسية قانونية. ومن خلال هذا الطرف يجيز لنا ان نسأل: ما الفرق بين العلمانية وفصل الدين عن الدولة؟ أليست العلمانية في الأخير هي عملية الفصل هذه؟ هذا سؤال منطقي.
قبل محاولة الإجابة عنه هناك سؤال آخر تاريخي عن التجربة الإسلامية، ولا يخرج عن حدود المنطق ذاته: هل عرفت الدول الإسلامية التي جاءت بعد انهيار دولة الخلافة الراشدة فصلاً بين الدين والدولة، أم أن هذه الدول لم تعرف هذا الفصل البتة؟
هناك معضلة أمام الإجابة عن هذا السؤال، انطلاقاً من طرح الدكتورة فتحية المذكور أنفا؛ وذلك لأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة فعلا ؛ وهذا يشكل مفهوما مفزعا لدى المسلمين؛ نظرا لأنه لا يوجد مصطلع قد تعرض للتشويه مثل مصطلح العلمانية.
فإذا قلنا إجابة عن السؤال إن الدول الإسلامية لم تعرف أي شكل من أشكال الفصل بين الدولة والدين فسيترتب على هذه الإجابة أنه لا يوجد أي فرق من هذه الناحية بين جميع الدول الإسلامية التي عرفها التاريخ، منذ دولة النبوة في المدينة وحتى وقتنا الحاضر.
ومعنى هذا ايضا أنه لا فرق بين دولة المدينة من ناحية، والدولة الأموية أو العباسية أو السلطنة العثمانية حسب الدكتورة فتحية من ناحية أخرى، وهذا يتعارض رأساً مع المنطق ولا يتفق مع واقع التاريخ أو الواقع الذي كانت عليه هذه الدول.
ومن ناحية ثانية فان بعض الدول التي جاءت بعد الخلافة الراشدة عرفت حال الفصل بين الدولة والدين، وإن اختلفت درجة الفصل من دولة الى أخرى ومن مرحلة زمنية لأخرى، فإن معنى ذلك أننا نستطيع العثور على جذور للعلمانية في تراثنا الاسلمية سواء عند ابن رشد او ابن المقفع وحتى لدى حجة الاسلام ابي حامد الغزالي.
لكن من المؤكد بأن غياب قاعدة تشريعية ملزمة للناس سواء في بيعة ابي بكر أو فيمن أعقيه قد لزم عنه في خلال سنين لا تتجاوز الثلاثين أن يتمكن معاوية من ملئ هذا الفراغ بتأسيس مبدأ الغلبة، حيث لا تشريع يحول دون ذلك، فساد هذا المبدأ منذ أن قام الملك العضوض بقيام الدولة الأموية وحتى يوم الناس هذا، ولوكان قد وجد معاوية تشريعا كذلك التشريع الذي وضعه سولون لدولة ديمقراطية في اثينا، لما تمكن؛ ففي اثينا جاء حاكم هو بيزيستراتريس فاراد أن يعصف بالديمقراطية ليحكم حكما ديكتاتوريا وراثيا فافتعل حادث اعتداء عليه – بنفس طريقة افتعال رجب اوردغان ذلك الانقلاب الذي بموجبه تخلص من الد خصومه المنافسين له ولحزبه – لكنه أي الحاكم الأثيني – لم يتمكن إذ واجه تشريعا ثابت القواعد إن في احكامه أو في تمسك الشعب به، ولو كان معاوية قد واجه مثل ذلك لما تمكن أن يؤسس الملك العضوض الذي ظل سائدا في الدول الاسلامية إلى يوم الناس هذا..
ويؤكد سيادة مبدأ الغلبة ما ذهبت إليه الدكتورة فتحية بأن اغلب الدول الإسلامية تنص في دساتيرها على اسلمة الدول وتديين السياسة بذلك النص الذي يجعل من الشريعة الاسلامية المصدر الوحيد للتشريع، وهي – أي الدول الاسلامية – تجعل من الفقيه المفتي فوق الدستور ويصير الدستور محكوما من قبل فقهاء مذهب الحاكم ” تقول الدكتورة فتحية بأن ((في الأحداث السياسية الكثيرة مقارعة الخصوم بسلطة الدين وتبرير الاستحواذ على السلطة عبر التاريخ الإسلامي انما استند إلى المرجعية الدينية وان كان بالباطل)).
الخاتمة
ينبغي أن نفهم في عالمنا العربي والإسلامي بأن الصراع بين المسلمين ليس للأسباب الدينية أو العرقية أو المذهبية.
الصراع من يوم سقيفة بني ساعدة إلى يومنا هذا هو بسبب غياب تشريع ونظرية ثابتة وقواعد تحدد كيف يعتلي الحاكم سدة الحكم ومتى يتم عزله وما هي شروط تعيينه وفترة الحكم..الخ ، كما تمنع استغلال الدين لأجبار الناس بطاعة الحكام المستبدين ولا يمكن أن يهدأ هذا الصراع إلا بالقضاء على أسبابه الحقيقة وليس بحرف مساره إلى صراع ديني أو مذهبي أو طائفي أو عرقي و استغلال عواطف وجهل الشعوب.
هذه الأسباب هي السلطة وضرورة تحييد الدين عن السياسة وتوزيع الثروة توزيعا عادلا وشفافاً وحقيقيا وتجنيب الدين هذا الصراع الذي أصبح بضاعة رائجة في هذا الزمن من قبل قوة تريد نهب الثروة والاستئثار بالسلطة تحت هذا العنوان وهو الخوف على الدين وحمايته بينما هناك اختلاف بين الدين والسياسة باعتبار الدين عقيدة تخدم الساسة من خلال تهذيب النفس البشرية ونزكيها، باعتبار الله رقيب في السر والعلن في مكتب المسؤول، وفي مخدعه، الدين وحي من الله مقدس، والسياسة فعل بشري ينظم الانسان شؤون حياته حسب ظروف الزمان والمكان، السياسة نسبية متغيرة ومتعددة بينما الدين ثابت ومطلق وواحد والدين حسابه وعقابه آجل أخروي، بينما السياسة عقابها فوري واني وعاجل، الدين الحاكم فيه هو الله، والسياسة يحكم الانسان المنتخب من الشعب، السياسة تتعامل مع الظاهر بينما الدين يتعامل مع الباطن، الدين بين العبد وربه قال تعالى: (إن ريك هو اعلم بمن ضل وهو أعلم بمن اهتدى) [النجم 30] بينما السياسة فان الاجهزة الرقابية هي التي تعلم بذلك، فالدين لله والسياسة للشعب، الدين بين العبد وربه أما السياسة فهي بين المجتمعات والدول، الدين حلال وحرام أما السياسة فهي صائبة و خاطئة، الدين يؤثم الفرد لتركه أما السياسة فلا إثم على من يتركها.
واخيرا فان الدين أثره على الفرد لذاته سلباً أو إيجاباً أما السياسة أثرها على المجتمع سلباً أو إيجاباً إذ لم تكن على البشرية كلها، ولذا فلا مناص من العمل بالحديث الشريف الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها وقد وجدناها في الغرب الذي تخلص من الحروب باسم الدين عن طريق علمنة الدولة والحياة والعلوم فتقدم وتطور.
من حائط الكاتب على الفيسبوك